الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والثمانين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، في هذا الدرس نتحدّث عن مراتب الهداية، أعلى هذه المراتب على الإطلاق من حيث النوع تكليم الله عز وجل لعبده يقظةً بلا واسطة، بل منه إليه، وهذه أعلى مراتبها، كما كلّم اللهُ موسى بنَ عمران صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى:
﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)﴾
أي لا يوجد اتّصال أشدّ وأقوى من أن يكلِّم اللهُ إنسانًا.
الاختصاص ليس من لوازمه التفضيل:
أيها الإخوة؛ هناك نقطة ينبغي أن تكون واضحةً لديكم، أنّ الاختصاص ليس من لوازمه التفضيل، فلو أنّ ضابطًا كبيرًا يركب طائرة ويطير، لا يمكن أن يكون أعلى من قائد الجيش كلّه، مع أنّ هذا الضابط الطيار له اختصاص في الطيران، بينما قائد الجيش قد لا يطير، إلا أنّ مرتبة قائد الجيش أعلى من مرتبة الطيّار، فذكرتُ هذا التحفظ لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام سيّد الخلق قاطبةً، وحبيب الحق، وهو سيّد ولد آدم، وهو أعلى مخلوقٍ خلقه الله عز وجل، ومع ذلك لمْ يكلّمه، فالعلماء قالوا: الاختصاص لا يقتضي التفضيل، أما من حيث طبيعة العلاقة بين الإنسان وخالقه، أعلى درجة هي التكليم.
هل من اختصّ بمرتبة التكليم يُعدّ في أعلى مقام؟
قال تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)﴾
لم يقلْ هذا شكًّا في وُجوده كما يدّعي بعضهم، بل قال هذا طمعًا في رؤيته بِدافعٍ من شوقه، ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾ الطبيعة البشريّة في الحياة الدنيا لا تحتمل رؤية الله تعالى، لكنّ الله عز وجل وعد المؤمنين بأنهم سوف يرَون ربّهم في الجنّة كما يرون في الدنيا القمر ليلة البدر، وقد أثبتَ الله تعالى هذا في قرآنه الكريم فقال:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
وبيّن الله عز وجل أنّ أشدّ عقابٍ على الإطلاق أن يُحجب الإنسانُ عن ربّه، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
هذه مرتبة من حيث نوع العلاقة أعلى مرتبة، لكنْ من اختصّ بها لا يُعدّ في أعلى مقام،
(( عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ. ))
لذلك نقول في الصلاة بعد الأذان
(( في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))
مقام العبد عند الله يعلو بِقَدْرِ قوّة اتّصاله به سبحانه:
قال تعالى:
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)﴾
إخواننا الكرام؛ ما علاقتنا بهذا الكلام؟ بِقَدْرِ قوّة اتّصالك يعلو مقامُك، بقدْر إحكام اتّصالك يعلو مقامك عند الله تعالى، أي بشكلٍ أو بآخر إذا كان هناك مركز تحويل كهربائي كبير، يتلقّى المدد من خطّ توتّر عال مثلاً، قوتُه ثمانون ألف فولط، هذا مركز التحويل يمكن أن يضيء مدينة، ولله المثل الأعلى، النبي عليه الصلاة والسلام لشدّة قربه من الله يتلقّى من الله تعالى شيئًا لا يوصف، قال تعالى:
﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)﴾
قال علماء البلاغة: هذا هو الإيجاز الغني، ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ أي إنسان اتصل به:
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾
هذه التغذية، الأخذ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ التغذية من الله والاقتباس من المؤمنين.
من ذكر الله تجلّى الله على قلبه بالسكينة والرحمة:
لذلك أنت قد تلتقي بإنسان صالح تقول: والله أنِسَ قلبي به، والله شعرتُ بسعادة، قد تكون سهرة متواضعة، في بيت متواضع، بضيافة متواضعة، يقول لك: يا أخي ما شعرنا بالوقت، صار سرور، لأنّ حال هذا الصالح الموصول بالله انْعكس عليك، فشعَرْتَ بهذه السعادة، فكيف لو أُتيح لك أن تتّصل بنبيٍّ؟ سيّدنا ربيعة خدم النبي عليه الصلاة والسلام، فلمّا أمره أن ينصرف إلى البيت مساءً بقيَ نائمًا على عتبة باب النبي، من شدّة انجذابه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، إذا أُتيح لك أن تلتقي بإنسان صالحٍ تقول: أَنِس قلبي به، شعرت بقُربٍ من الله تعالى، ولاشكّ أنّكم تعرفون هذه الحقيقة: قد يتجلّى الله على أُناسٍ في مجلس ذِكْر كهذا المجلس، الملائكة تحفّهم، والرحمة تغشاهم، والسكينة تتنزّل عليهم، لأنّهم ذكروا الله عز وجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام لشدّة اتّصاله بالله صار التجلّي الإلهي عليه كثيفًا، فالتغذية عالية جداً، أيّ إنسان يتّصل به بطريقة أو بأخرى يذكره، يذكر سنّته، يذكر مواقفه، يذكر فضائله، يذكر شمائله، يذكر أدبه الرفيع، يذوب شوقًا إليه، وهذا الكلام تقريباً معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ التغذية، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ فقد تُنَوَّر آلاف البيوت من مركز تحويل واحد، لكن هذا المركز التحويلي يقتبس من التوتّر العالي أعلى طاقة، إن صحّ أنّ في الحياة إنساناً مسعداً بحاله فهذا هو.
أذكرُ لكم شاهدًا على هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه الصديق وحنظلة،
(( عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له، فَقالَ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ، فَقالَ: يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ. وفي رواية: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا. ))
وأما نحن معاشر الأنبياء فتنام أعيننا ولا ينام قلبنا.
لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ويدلّك على الله مقاله:
إذا كنت أنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم لك حالٌ مسعد، إذا كنت عند الصّدِّيق لك حال مسعد، إذا كنت عند مؤمن كبير لك حال مسعد، إذا كنت عند عارف بالله تعالى لك حال مسعد، إذا كنتَ مع موصول فأنت موصول، هذا معنى قول بعض علماء القلوب: لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ويدلّك على الله مقاله، ولا يستطيع المؤمن مهما سما ومهما علا أن يفعل شيئًا فوق ذلك، يدلّك على الله بكلامه، وينهض بك إلى الله بحاله، لذلك قالوا: حال واحدٍ في ألف أبلغ من ألف قول في واحد، ألف إنسان، وكل إنسان حضّر محاضرة عمل بها شهرين؛ معلومات، وأدلّة، وشواهد، وقصص، ومنطلقات، وموازنات، ألف محاضرة تُلقى على واحد يفوقُها أنّ واحدًا موصولاً بالله يُؤَثّر في ألف، وألف ليسوا موصولين لا يؤثّرون في واحد، كلام دقيق، ألف متحذلقون غير موصولين لا يؤثرون في واحد، وواحد موصول يؤثر في ألف، لذلك كانت حياة الأنبياء إعجازًا، أي هل يعقل إنسان يعيشُ ثلاثًا وستين سنة، جاءه الوحي في الأربعين، ثلاث وعشرون سنة عاشَ في بلادٍ قاحلةٍ، مجدبةٍ، جافّة، لا زرع فيها، مع أُناسٍ بدْو، رُحّل، بعيدين عن الثقافة والعلم والحضارة والتفوّق، إنسان واحد في ثلاثة وعشرين عامًا يصنعُ معجزةً؟ مليار ومئتا مليون مسلم وقد مضى على إسلامهم أكثر من ألف وخمسمئة عامٍ، هذا معنى قول بعض علماء القلوب: حالٌ واحدٍ في ألف أقوى من قول ألفٍ في واحد.
2-مرتبة الوحي المختص بالأنبياء:
المرتبة الثانية مرتبة الوحي المختصّ بالأنبياء، أعلى مرتبة من حيث النوع: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ المرتبة الثانية الوحي، الوحي المختصّ بالأنبياء، لماذا قيّدْتُ هذه الكلمة؟ ذلك أنّ الوحي في القرآن على أربع مراتب، قال تعالى:
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)﴾
إذا توجّه الوحي إلى جماد فهو الأمر تكوينيٌّ، لكنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النحل، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)﴾
هذا وحي الحيوانات وحي غريزي، أما حينما أوحى الله إلى أمّ موسى أن أرضعيه، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)﴾
هذا وحي إلهام، أما إذا قال الله عز وجل:
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)﴾
هذا وحيُ نبوّة، فالوحي أمرٌ تكويني، أو أمرٌ غريزي، أو إلهام، أو إرسال رسول من المَلَك إلى نبيّ من الأنبياء، فالمرتبة الثانية:
﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)﴾
المرتبة الثالثة هي مرتبة إرسال الرسول الملَكي إلى الرسول البشري فيوحي إليه عن الله عز وجل ما أمره أن يوصله إليه، قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)﴾
هناك مرتبة رابعة اسمها: مرتبة التحديث، أي الإنسان ليس نبياً، الآن دخلنا بمـراتب لا علاقة لها بالنبوّة؛ مرتبة التكليم، ومرتبة وحي النبوّة، ومرتبة إرسال الرسول، هذه المراتب الثلاثة خاصّة بالأنبياء، الآن نزلنا إلى درجة بعد الأنبياء هي مرتبة التحديث،
(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. ))
من شدّة قربه من الله، فالله عز وجل يحدّثه بطريقة أو بأخرى، أرأيت إلى مراتب الهدى؟ أما هذا المقطوع عن الله تعالى من أيّ مرتبة هو؟ المقطوع عن الله تعالى بِمَعصيَة، أو المحجوب بِعَيبٍ، الدعاء الشريف: اللهمّ لا تقطعنا بِقَواطع الذنوب، ولا تحجُبنا بقَبائح العيوب، الخُلُق السيّئ، العيبُ الذميمُ هذا يحجب، والذنب يقطع، لذلك أشدّ شيءٍ على الإنسان أن يُحْجَبَ بِعَيبٍ قبيح، أو أن يقطع بذنبٍ قبيح، ((إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)) .
العلماء قالوا: إنّ الصّدّيق أعلى من المُحَدَّث، المرتبة الأولى التي تأتي بعد الأنبياء مرتبة الصدّيقين، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)﴾
السيّدة مريم كانت صدّيقة النساء، سيّدنا أبو بكر كان صدّيق هذه الأمّة، أي إنسانٌ قريبٌ جداً من مقام النبوّة، فكلّ ما يقوله النبي يُصَدّقه لأنّه يراه، مثلاً لو ذهب شخصٌ إلى بلدة، وعرف معالِمَها، وهو جالسٌ في مجلس، إنسان تحدّث عن هذه البلدة، كلما قال شيئاً، يقول له: صحيح، صدقت، طبعاً لأنّ الذي يقوله يعرفه، فمرتبة الصّدّيقيّة هي أوّل مرتبة تأتي بعد مرتبة النبوّة، مرتبة التحديث تأتي بعدها، سيّدنا عمر رضي الله عنه كان مُحَدَّثًا، كان يقول: ما أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر، عن سيدنا الصديق.
قال بعض العلماء: الصّدّيق استغنى بكمال صدّيقيّته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشْف، لكن لا تسمحوا لأحد أن يقول لكم: حدّثني قلبي عن ربّي بشيءٍ يخالف الشريعة، كلّ ما مِن شأنه أن يكون إشراقًا أو إلهامًا أو كشفًا أو، أو، لا بدّ من أن ينضبِطَ بالكتاب والسنّة.
يُروى أنّ أحدهم في عهد العزّ بن عبد السلام رأى رؤيا، رأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: إنّ في مكان كذا وكذا كنزًا فخُذهُ ولا تدفع زكاته، فجاء هذا الإنسان إلى العزّ ابن عبد السلام، وقال: رأيتُ كذا وكذا، فقال: اذْهب إلى مكان كذا وكذا واحفِر وخُذ الكنز وادفع زكاته، لأنّ فتوى النبي عليه الصلاة والسلام في حياته أبلغ من فتواه في منامك، أيّ منامٍ يُعزى إلى النبي يخالف الشريعة ينبغي ألا نصدّقه.
هناك طرفة يقولون: مسؤول كبير في الأوقاف قال له شخصٌ: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام البارحة وهو يُهديك السلام، ويطلب منك أن أكون عندك في الوزارة موظَّفًا، وأن تعتني بي، فهذا المسؤول على جانبٍ من الذّكاء، قال له: أنت متى رأيت النبي؟ قال له: حوالي الساعة الثانية عشرة، قال له: أنا رأيتهُ الساعة الرابعة بعدك قال لي: إنّه كذّاب لا تصدّقه، أي شيء يأتيك عن النبي بخلاف كلامه وسيرته وسنته فلا تقبله، ديننا ليس ديــن منامات، ولا دين كرامات، ولا ديـن شطحات، ولا دين خزعبلات، ولا دين تأمّلات أو تأوّهات، ديننا دين منهج، دين وحي.
من أدقّ ما تعني به كلمة:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
مَن هم أهل الذِّكْر؟ الذِّكْر في أيّ معنى ورد في القرآن الكريم؟ أي اسألوا أهل الوحي، نحن عندنا حقّ لا يأتيه الباطل أبدًا هو الوحي، فكلّ إنسان مختصّ بالوحي، متقنٌ للوحي، أي يعرف معاني كلام الله تعالى، ومعاني سنّة رسول الله: ﴿اسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون﴾ هذه المرتبة مرتبة الصّدّيقيّة فوق مرتبة التحديث.
المرتبة السادسة هي مرتبة الإفهام، وهذه المرتبة يمكن أن تجتمع في وليّ وفي نبيّ، قال تعالى:
﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)﴾
(( عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه: قُلتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: هلْ عِنْدَكُمْ شيءٌ مِنَ الوَحْيِ إلَّا ما في كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لا والذي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ، ما أعْلَمُهُ إلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا في القُرْآنِ، وما في هذِه الصَّحِيفَةِ، قُلتُ: وما في الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وفَكَاكُ الأسِيرِ، وأَلا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بكَافِرٍ. ))
لا يوجد شطحات، إذًا أن تفهم عن الله شيئًا، أن تفهم نصّ الوحييْن الكتاب والسنّة فهذه مرتبة، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)﴾
فَهْم النص فهمًا عميقًا، أي إذا قرأت قوله تعالى:
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
ففهمْت من هذا النصّ أنّ الله خلق فيها الفجورَ، وخلق فيها التقوى من دون سبب منها، فأنت لم تؤتَ فهمَ كلام الله تعالى، أما إذا فهمْتَ معنى قوله تعالى:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
على أنّ الله تعالى خلق الإنسان على جِبِلّة عالية راقية بحيث إن فجرَت أو اتّقت تعرف معرفةً ذاتيّة من دون وسيط أنّها فجرَت أو اتَّقَتْ، هذا فهمٌ صحيح، هذا فهمٌ راقٍ لكتاب الله ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾ .
سيّدنا عمر رضي الله عنه كتب كتابًا لأبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهما يقول فيه: الفهم الفهم فيما أُدليَ إليك، فالفهم مرتبة عالية جدًّا يؤتيها الله عز وجل للصادقين، يفهم النصّ على ما أراده الله، كنت أقول مرّة: لو قال لك إنسان: اسقني ماءً، أنت قد تجتهد أن تأتيه بكأس، أو بإناء فضيّ نُقِشَ عليه آية الكرسي مثلاً، أو بإبريق، أما أن تأتيه بخُبز أنت ما فهمت النص أبداً، أما قد تجتهد في الوعاء، في الأسلوب، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾
إن أوتيتَ فهمًا لكتاب الله عز وجل تفهم هذه الآية على أنّ الله عز وجل أكرمك بالاختيار، وأكرمك بالتكليف، وأكرمك بِحَمل الأمانة، فلو ألغى هذه الكرامة، ألغى اختيارك وتكليفك وحمْلَكَ للأمانة، وأراد أن يجبرك على شيء، ما أجبرك إلا على الهدى، هذا المعنى، وليس المعنى الذي يتبادر إليه الذّهن، أنّ الله تعالى ما أراد الهداية للبشريّة.
قال: فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصدّيقيّة، ومنشورُ الولاية النبويّة، وفيه تفاوُت بين مراتب العلماء، حتى عُدّ ألف بواحد، وواحد بألف، حسب الفهْم.
سيّدنا ابن عباس رضي الله عنهما كان شابًّا صغيرًا، قرأ قوله تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عنده شيوخ الصحابة، وكان أحدَثَهُم سناً ابن عباس، تألّموا على أنّ هذا الصغير ليس في مستوانا، أدرك عمر اعتراضهم، فجمعهم وسألهم عن هذه الآية، فإذا ابن عباس رضي الله عنه الذي هو أحدثهم سناً قال: إنّها نَعْوَة النبي عليه الصلاة والسلام، نُعِيَ النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الآية: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ .
عندنا مرتبة سابعة هي مرتبة التبيين، تحدّثنا عن مرتبة التكليم، ومرتبة الوحي، ومرتبة إرسال الرسول، وعن مرتبة التحديث، وعن مرتبة التصديق، ومرتبة التفهيم، والآن ننتقل إلى مرتبة التبيين، فالإنسان حينما تتّضح الحقائق أمامه اتّضاحاً جلياً يصبحُ طليقاً في بيانه، وكلّ إنسان يتعثّر في البيان معنى ذلك الحقيقة غيرُ واضحة أمامه، بشكلٍ مبسّط: إنسان ألقى نظرة على ساحة عامّة، عيناه حادّتان والساحة قريبة منه، يصِف لك ما يرى بدِقّة متناهيَة، من أين جاء صوابه في الوصف؟ من رؤيته الصحيحة، ومن وُضوح الأشياء أمامه، أما إذا كان بعيدًا، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾
قد لا تتّضح لديه الرؤية، الذي يبيّن أسماء ربّنا الحسنى، وصفاته الفضلى، وأخلاق الأنبياء، وكمال الأنبياء، وانسجام القرآن، وصحّة السنّة، وعلّة كلّ شيء، وحكمة كلّ شيء، فهذا الذي يُبيّن ينطلق من رؤية صحيحة، وأعلى أنواع العلم ما كان رؤيةً، والدليل قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾
إنسان يركب مركبة، والطريق فيه حفر، وآكام، وفيه مشكلات، وفيه انحرافات، وتحويلات، وصعوبات، وصعود، ونزول، أما إذا كان معه إضاءة شديدة جداً كلّ شيء سهل.
فيا أيها الإخوة؛ قضيّة التبيين أساسها الوُضوح، ولنا متابعة لهذا الموضوع إن شاء الله في درسٍ آخر.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق